في كثير من المنظمات، تظهر مواطن الضغط في صور متكررة وواضحة: إعادة إنجاز الأعمال بشكل متكرر، وتفاوت مستويات الخدمة، وتعثر المبادرات في مرحلة التنفيذ. هذه المظاهر نادرًا ما تكون قضايا منفصلة؛ بل تُشير إلى أنّ القرارات المرتبطة بالجودة، والمتعلقة بالمعايير، وتحديد المسؤوليات، وآليات التعلّم، لا تزال بحاجة إلى مزيد من الوضوح والتنظيم على مستوى الحوكمة والقيادة العليا. وحيثما تُدار الجودة بأسلوب منهجي وواضح، تكتسب المنظمة قدرًا أعلى من القدرة على التنبؤ والمصداقية، بينما يؤدّي التعامل المجزّأ مع موضوع الجودة إلى تكاثر الاستثناءات وتصدّرها لجدول أعمال الإدارة.
الجودة كمؤشر أساسي في الأداء الإداري
تظهر آثار إدارة الجودة في الممارسات اليومية وطرق العمل وآليات اتخاذ القرار، قبل أن تظهر نتائجها في المؤشرات الرسمية. وتبرز هذه الآثار في ثلاثة مجالات رئيسية:
- موثوقية التنفيذ: مدى إنجاز الالتزامات والمشاريع والخدمات على نحو صحيح من المرة الأولى، من دون الحاجة إلى إعادة العمل أو اللجوء إلى التصعيد الإداري.
- العبء التنظيمي: حجم ما يُستنزف من وقت القيادات في التعامل مع الأزمات والموافقات والاستثناءات، بدلًا من تخصيصه للتخطيط المنهجي والمراجعة المنتظمة.
- الثقة الداخلية والخارجية: مستوى الثقة لدى الفرق الداخلية والشركاء وأصحاب المصلحة في قدرة المنظمة على الوفاء بتعهداتها، والالتزام بجداولها الزمنية، وتقديم بيانات دقيقة وموثوقة.
تدل هذه المؤشرات على تكاليف غير مباشرة مرتفعة تتحمّلها المنظمة، إذ تشير بيانات الجمعية الأمريكية للجودة إلى أن العديد من المنظمات تتحمّل تكاليف مرتبطة بالجودة تتراوح بين 15 و20 في المائة من إيرادات المبيعات، وقد تصل في بعض الحالات إلى نحو 40 في المائة من إجمالي كلفة العمليات، وهو ما يعكس حجم الموارد التي تُستهلك في المعالجة والتصحيح بدلًا من توجيهها إلى التحسين المسبق والتطوير المستدام للخدمات والمنتجات.
الرؤى المستمدة من الممارسة والبحث
تشير الخبرات العملية والمقارنات المرجعية الخارجية إلى الاتجاه ذاته؛ إذ تعكس مستويات الجودة بدرجة كبيرة أسلوب قيادة المنظمات وحوكمتها.
- الثقافة والقيادة: تبرز الأدبيات الواسعة حول ثقافة الجودة أربعة عوامل متكررة تدعم الثقافات التنظيمية في مجال الجودة، هي: تركيز القيادة على موضوع الجودة، ورسائل التواصل الموثوقة و المتسقة، ومشاركة الزملاء، وتملّك الموظفين لمسؤولية الجودة.
- الممارسة المعيارية: مع وجود أكثر من 1.26 مليون شهادة سارية وفق المعيار ISO 9001 على مستوى العالم، أصبحت نظم الجودة المنظَّمة أداةً أساسية من أدوات الإدارة الحديثة، وليست ملحقًا تخصصيًّا إضافيًّا.
الأولويات الإدارية للجودة
لترجمة هذه الرؤى إلى ممارسة عملية، يتعيّن على الفرق التنفيذية التركيز على أربع توجهات رئيسية:
- تحديد إطار الحوكمة وتحديد المسؤوليات: إسناد مسؤولية تنفيذية واضحة عن مخرجات الجودة، والتعامل مع مؤشرات الجودة كبنود ثابتة على جدول أعمال اللجان والمنتديات القيادية العليا، أسوةً بالاستراتيجية وإدارة المخاطر.
- دمج الجودة بالأداء: إدماج التوقعات المرتبطة بالجودة (مثل الموثوقية والالتزام بالمواعيد) ضمن أهداف الأدوار الوظيفية وحوارات المراجعة الدورية، واستخدام مؤشرات الجودة كأداة للتوجيه المهني وضبط العمليات وتحسينها.
- إدارة العمليات بشكل متكامل: تحديد مسؤوليات واضحة عن المسارات الرئيسة لتقديم الخدمات، والاستفادة من الأطر المرجعية مثل ISO 9001 لملاءمة تصميم العمليات وتوثيقها وإجراءات التصحيح والتحسين عبر مختلف الوحدات التنظيمية.
- استخدام البيانات للتدخل المبكر: تجميع البيانات التشغيلية في لوحات متابعة موجزة تُوجِّه انتباه الإدارة إلى الأنماط المتكررة والأسباب الجذرية واحتياجات إعادة التصميم الهيكلي، بدلًا من الانشغال بالحوادث الفردية المنعزلة.
تُعد الجودة نتيجة مباشرة للخيارات الإدارية المتعلقة بوضع المعايير، وتوزيع الأدوار، وآليات المتابعة والتنفيذ. ويكمن الفارق بين المنظمات التي تعزّز قدرتها على تحقيق أهدافها وتطوير خدماتها، وتلك التي تتزايد لديها التحديات التنظيمية والتشغيلية، في مدى وضوح هذه الخيارات وخضوعها لحوكمة فعّالة ومراجعة وتحسين مستمرّين، مقابل تركها لتتكوَّن تدريجيًّا على شكل ممارسات روتينية غير مدروسة داخل المنظومة التنظيمية.